الأقسام: الفقه والأصول

درس النسخ – مادة الفقه والأصول – الثانية باكالوريا علوم شرعية

النسخ

تعريف النسخ:

النسخ في اللغة: بمعنى الإزالة والإبطال والإعدام، ومنه قوله تعالى في سورو الحج: ﴿َمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، بمعنى يزيل ما يلقي الشيطان بدحضه للشبهات التي يلقيها على المشركين، ومنه نسخت الشمس الظل، أي أزالته وأعدمته، ونسخت الريح أثر المشي بمعنى أبطلته، والنسخ بمعنى أخر النقل، أي نقل الشيء وتحويله مع بقائه في نفسه من مكان إلى آخر، ومنه قوله تعالى في سورة الجاثية: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، أي نقل الأعمال إلى الصحف ومن الصحف إلى غيرها، ومنه نسخت الكتاب، أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر، والنسخ في اصطلاح الأصوليين: عرف بتعاريف كثيرة منها: رفع حكم شرعي بدليل شرعي آخر متأخر عنه (وهذا التعريف هو الأقرب)، وهو إبطال العمل بالحكم الشرعي بدليل متراخ عنه، يدل على إبطاله صراحة أو ضمناً، كما هو إظهار دليل لاحق نسخ العمل بدليل سابق.

أركان النسخ:

يتبين من التعريف أن أركان النسخ ما يلي:

  • الناسخ: وهو الحكم المتأخر الذي حل محل الحكم المرفوع.
  • المنسوخ: وهو الحكم المرفوع الذي بطل العمل به.
  • أداة النسخ: خطاب الشارع الذي دل على رفع حكم شرعي بدليل حكم شرعي أخر متأخر عنه.
  • المنسوخ له: وهو المكلف الذي تعلق الحكم الناسخ بفعله.

حكمته:

  • مراعاة مصالح الناس في وقت الرسالة اقتضتها أسباب فإذا زالت هذه الأسباب فلا مصلحة في بقاء الحكم (مسألة ادخار اللحوم)، َقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا».
  • اقتضاء عدالة التشريع التدرج في إصلاح ما فسد من حال من يشرع لهم وعدم مفاجأتهم بما يشق علي فعله أو تركه، وهذا التدرج يقتضي التعديل والتبديل (مسألة حكم الخمر ونظام التوريث).
  • التخفيف على الأمة والتيسير عليهم وإظهار فضل الله عليهم حتى يشكروه على نعمه، (نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه).
  • ابتلاء المكلف واختباره بالامتثال وعدمه فيظهر المؤمن فيفوز، والمنافق فيهلك ومن ذلك نسخ الحكم بمساويه في صعوبته وسهولته (مسألة تغيير القبلة).
  • الزيادة في الثواب والأجر إذا كان النسخ إلى أشد أو عند تلاوة الآيات التي نسخت حكما وبقيت لفظا.

أمثلة تشريعية على حكمة النسخ:

  • مسألة ادخار اللحوم: ورد أن وفوداً من المسلمين وفدوا على المدينة في أيام عيد الأضحى، فأراد الرسول أن يقيموا بين أخوانهم في سعة، فنهى المسلمين عن ادخار لحوم الأضاحي حتى تجد الوفود فيها توسعة عليهم، فلما رحلوا أباح للمسلمين الادخار، وقال عليه السلامﷺ: «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا».
  • التدرج في تحريم الخمر: عدالة التشريع تقتضي التدرج وعدم مفاجأة من يشرع لهم بما يشق عليهم فعله، أو ما يشق عليهم تركه، وهذا التدرج يقتضي التعديل والتبديل، كما وقع في حكم الخمر، فإن الله سبحانه وتعالى لم يشرع تحريمها في ابتداء التشريع، ولكن بين سبحانه أن فيها إثماً كبيراً، ومنافع للناس، وأن أثمها أكبر من نفعها، وكان هذا تهيئة وتمهيداً إلى تحريمها، لأن الذي ضرره أكبر من نفعه يجذر بالعقل أن يجتنبه، ثم أمر المسلمين أن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى، فكان هذا تمهيداً ثانياً لتحريمها واجتنابها، لأن أوقات الصلاة متعددة ومتفرقة، فلا يأمن المسلمون إذا شربوها أن يدخل عليهم وقت الصلاة وهم سكارى، ثم بعد ذلك جاء النص الصريح على أنها رجس من عمل الشيطان، والأمر باجتنابها.
  • نظام التوريث: بقي فترة في بدء الإسلام على ما كان عليه عند العرب في جاهليتهم، ثم أخذ الإسلام في تعديله بالتدريج، فنسخ أولاً الإرث بالتبني، ثم نسخ الإرث بالتحالف والتآخي، ثم شرعت للتوريث أحكام مفصلة، هدمت الأسس الجائزة التي كان عليها أهل الجاهلية في نظام توريثهم.

محل النسخ وشروطه:

محل النسخ يكون في الأوامر والنواهي من الأحكام الشرعية التكليفية الجزئية، والتي يمكن أن تحتمل وأن تتغير مصلحتها في زمن النبوة بين الشدة والتيسير، وعليه نسخ فيها يلي:

  • الأحكام الاعتقادية (أصول الإيمان).
  • الأحكام الكلية والمبادئ العامة المتعلقة بالعبادات والمعاملات.
  • أمهات الفضائل (الصدق – العدل – الوفاء بالعهد – بر الوالدين …).
  • تحريم أصول الرذائل (الكذب – الظلم – الخيانة – عقوق الوالدين …).
  • النصوص المحكمة الدالة على التأبيد (الجهاد ماض إلى يوم القيامة).
  • النص الخبري لأن نسخه تكذيب لمن أخبر به والكذب محال على الشارع.

شروط النسخ:

  • أن يكون الحكم المنسوخ شرعيا زمن الرسالة، فلا نسخ لحكم شرعي في القرآن أو السنة بعد وفاة الرسول ﷺ لأنه بعد وفاة الرسول انقطع ورود النصوص واستقراء الأحكام.
  • أن يكون دليل رفع الحكم المنسوخ خطابا شرعيا، والحكم الثابت بالقياس لا ينسخ بمثله، لأن المجتهد إذا استنبط حكماً في واقعة بطريق القياس ثم استنبط بالقياس هو أو مجتهد آخر في مثل هذه الواقعة حكماً يخالف الأول، فإن هذا ليس نسخاً للحكم الأول، وإنما هو إظهار لبطلان الدليل الأول، أي لخطأ القياس السابق.
  • أن يكون دليل الناسخ متأخرا عن المنسوخ زمنيا.
  • ألا يكون الحكم مقيدا بوقت معين، وإلا فالحكم ينتهي بانتهاء وقته ولا يعتبر هذا نسخا.
  • أن يكون بين الحكميين أو الدليلين السابق واللاحق تعارض حقيقي.